خلال السنوات الأخيرة، فرضت تقنيات الذكاء الاصطناعي نفسها كقوة دافعة في العديد من المجالات، ما جعلها تحتل موقعاً محورياً في جدول أولويات صناع القرار حول العالم. فعلى الرغم من الفوائد الكبيرة التي توفرها هذه التكنولوجيا، إلا أنها تنطوي أيضاً على تحديات ومخاطر تستدعي مناقشتها بجدية، خصوصاً فيما يتعلق بحماية الخصوصية.
في هذا السياق، نشرت مؤسسة “راند” الأمريكية للأبحاث والدراسات الاستراتيجية دراسة حول تأثيرات الذكاء الاصطناعي على قوانين حماية الخصوصية. أعد الدراسة فريق من الخبراء ضم باحثين ومتخصصين في القانون والسياسات العامة، حيث استعرضوا المخاطر التي تثيرها تقنيات الذكاء الاصطناعي فيما يتعلق بجمع ومعالجة البيانات الشخصية، وأثر ذلك على خصوصية الأفراد.
التعتيم الخوارزمي: تهديد الخصوصية في عصر الذكاء الاصطناعي
أحد أبرز المخاطر التي تطرق إليها التقرير هو ما يُعرف بـ”التعتيم الخوارزمي”، وهو مصطلح يشير إلى الغياب المحتمل للفهم الكامل لكيفية قيام الخوارزميات بجمع واستخدام وتعديل البيانات. يعود هذا التعتيم إلى الطبيعة المعقدة لهذه الخوارزميات أو إلى الإخفاء المتعمد من قبل الشركات لحماية أسرارها التجارية.
هذا الغموض يجعل من الصعب مراقبة وفحص كيفية استخدام الذكاء الاصطناعي للبيانات، مما يزيد من المخاوف بشأن إمكانية استغلال البيانات الشخصية بطرق لم تكن متوقعة أو مصرح بها عند جمعها.
مخاوف إضافية: إعادة استخدام وانتشار واستمرارية البيانات
تظهر الدراسة أيضاً قضايا أخرى مثل إعادة استخدام البيانات خارج سياقها الأصلي، وانتشار البيانات التي تجمع عن غير قصد من أشخاص لم يكن مستهدفين في البداية. بالإضافة إلى ذلك، هناك مسألة استمرارية البيانات، حيث يمكن أن تبقى هذه البيانات متاحة لفترات أطول مما كان متوقعاً، مما يثير مخاوف بشأن حماية المعلومات على المدى الطويل.
استراتيجيات مقترحة للحد من المخاطر
من أجل مواجهة هذه التحديات، تقترح الدراسة عدة خيارات لتعزيز حماية الخصوصية في ظل تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي:
الحد من جمع البيانات: يجب أن يقتصر جمع البيانات على الحد الأدنى اللازم لتحقيق أهداف محددة بدقة، ما يتطلب تغيير النهج السائد لدى العديد من الشركات التي تسعى لجمع أكبر قدر ممكن من المعلومات.
تقييمات التأثير الخوارزمي: تهدف هذه التقييمات إلى محاسبة المؤسسات التي تعتمد على أنظمة الذكاء الاصطناعي في اتخاذ القرارات، من خلال كشف الأضرار المحتملة والتوصية باتخاذ خطوات للحد منها.
التدقيق الخوارزمي: يتمثل في إجراء مراجعات منظمة لأنظمة الذكاء الاصطناعي لضمان توافقها مع المعايير القانونية المحددة، مع التركيز على استخدام البيانات ضمن الإطار المحدد والمصرح به.
الإفصاح الإلزامي: يتطلب من الشركات والمؤسسات التي تستخدم الذكاء الاصطناعي الإفصاح عن ذلك للعامة، كما هو الحال في قوانين الاتحاد الأوروبي المتعلقة بالذكاء الاصطناعي.
مشاركة أوسع في صياغة السياسات: يتعين على صناع السياسات تحقيق توازن بين التنظيم والابتكار، من خلال إشراك مختلف الأطراف المعنية، بما في ذلك مطوري الذكاء الاصطناعي، في وضع القوانين واللوائح المنظمة.
التوازن بين الابتكار والخصوصية
في ظل هذه المخاطر، تصبح الحاجة إلى إيجاد توازن بين تعزيز الابتكار وحماية الخصوصية أكثر إلحاحاً. يمثل تطوير أطر قانونية وتنظيمية مرنة وشاملة، تُراعي خصوصيات الذكاء الاصطناعي، خطوة ضرورية لضمان استخدام هذه التكنولوجيا بشكل آمن ومسؤول.
فالابتكار في مجال الذكاء الاصطناعي لا ينبغي أن يأتي على حساب حقوق الأفراد في حماية بياناتهم الشخصية، بل يجب أن يتم توجيه هذا الابتكار نحو خلق مستقبل رقمي يحترم الخصوصية ويعزز الثقة في التكنولوجيا.