شهدت شركة “إنفيديا” (Nvidia) خلال السنوات الأخيرة ازدهاراً غير مسبوق، جعلها من أكثر الشركات قيمة في العالم بفضل تفوقها في صناعة رقائق الذكاء الاصطناعي. ومع ذلك، بدأت الأسواق تشهد تباطؤاً في نمو أسهمها، حيث أصبح المستثمرون أكثر حذراً بشأن الاستمرار في ضخ الأموال في الشركة، وسط مؤشرات على تغيرات في سوق الذكاء الاصطناعي وتزايد المنافسة.
التفوق التقني الذي جعل إنفيديا في الصدارة
تمكنت “إنفيديا” من تحقيق قفزة نوعية بفضل تطوير رقائقها المتقدمة، وأبرزها “هوبر” (Hopper H100) وخليفتها الجديدة “بلاكويل” (Blackwell). هذه الرقائق ليست مجرد وحدات معالجة رسومات (GPU) تقليدية، بل تمثل قفزة في الحوسبة المتوازية، ما يجعلها ضرورية لتدريب وتشغيل نماذج الذكاء الاصطناعي الضخمة.
لماذا تعد رقائق إنفيديا أساسية للذكاء الاصطناعي؟
تستند تقنيات الذكاء الاصطناعي الحديثة، وخاصة النماذج التوليدية مثل “تشات جي بي تي” (ChatGPT) و**”جيميني” (Gemini)** من جوجل، إلى معالجة كميات هائلة من البيانات. لتحقيق ذلك، تحتاج الشركات إلى وحدات معالجة متخصصة يمكنها تنفيذ تريليونات العمليات الحسابية في وقت قياسي، وهنا يأتي دور رقائق “إنفيديا” التي توفر أداءً غير مسبوق مقارنة بالمنافسين.
وفقاً للشركة، فإن رقائق “بلاكويل” تقدم أداءً أعلى بـ 2.5 مرة مقارنة بـ “هوبر”، ما يجعلها الخيار الأمثل للشركات التي تسعى إلى تحسين كفاءة عمليات الذكاء الاصطناعي الخاصة بها. لكن رغم هذا التفوق، تواجه “إنفيديا” تحديات كبيرة تهدد هيمنتها المطلقة.
التهديد الصيني.. كيف غيرت “ديب سيك” قواعد اللعبة؟
أحد أكبر المفاجآت التي هزت سوق التكنولوجيا مؤخراً كان إعلان الشركة الصينية الناشئة “ديب سيك” (DeepSeek) عن نموذج ذكاء اصطناعي جديد أطلقت عليه “أر1” (R1)، وهو مفتوح المصدر ويمكن تدريبه باستخدام موارد أقل بكثير من النماذج التقليدية.
أثار هذا الإعلان مخاوف المستثمرين، حيث تراجعت القيمة السوقية لـ”إنفيديا” بمقدار 589 مليار دولار في يوم واحد، وهو أكبر انخفاض في تاريخ سوق الأسهم. ورغم تعافي السهم لاحقاً، إلا أن هذه الحادثة أظهرت أن هيمنة “إنفيديا” على سوق الذكاء الاصطناعي لم تعد أمراً مسلّماً به.
لماذا تسبب نموذج “ديب سيك” في كل هذا القلق؟
يعتمد نموذج “أر1” على تقنية تُعرف باسم “الاستدلال” (Inference)، وهي طريقة أكثر كفاءة من الأساليب التقليدية لتدريب الذكاء الاصطناعي. هذا يعني أن الشركات لم تعد بحاجة إلى استثمارات ضخمة في رقائق “إنفيديا” القوية، وهو ما قد يؤدي إلى انخفاض الطلب على منتجات الشركة في المستقبل.
ورغم هذه التطورات، أكدت “إنفيديا” أن رقائقها ستظل ضرورية حتى مع ظهور تقنيات جديدة، لأن الذكاء الاصطناعي لا يعتمد فقط على التدريب، بل يحتاج إلى طاقة حوسبة هائلة عند التشغيل الفعلي، وهو ما توفره رقائقها بكفاءة.
المنافسون يتحركون: “أدفانسد مايكرو” و”إنتل” يدخلان الحلبة
حتى الآن، تسيطر “إنفيديا” على نحو 90% من سوق وحدات معالجة الرسومات المخصصة لمراكز البيانات، وفقاً لتقرير صادر عن شركة الأبحاث “آي دي سي” (IDC). ولكن هذا لم يمنع منافسيها من محاولة انتزاع جزء من هذا السوق المربح.
“أدفانسد مايكرو ديفايسز” (AMD): طرحت الشركة رقائق جديدة من سلسلة “إنستينكت” (Instinct MI300)، والتي تستهدف مباشرة سوق الذكاء الاصطناعي. ورغم أن إيرادات AMD من هذا المجال لا تزال بعيدة عن “إنفيديا”، حيث بلغت 5 مليارات دولار فقط مقارنة بأكثر من 100 مليار دولار لـ”إنفيديا”، إلا أنها تسعى بقوة إلى زيادة حصتها السوقية.
“إنتل”: رغم أنها كانت رائدة في سوق مراكز البيانات، إلا أن الشركة تأخرت كثيراً في سباق الذكاء الاصطناعي. ورغم محاولاتها عبر تطوير رقائق “فالكون شورز” (Falcon Shores)، إلا أنها لم تحصل على اهتمام كافٍ من العملاء، ما دفعها إلى إيقاف المشروع والاكتفاء بالاختبارات الداخلية.
هل يفقد الذكاء الاصطناعي زخم النمو؟
إحدى المخاوف التي تهدد “إنفيديا” هي التكهنات المتزايدة حول احتمال تباطؤ الإنفاق على مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي. رغم إعلان شركات مثل “مايكروسوفت”، و”أمازون”، و”جوجل”، و”ميتا” عن خطط لاستثمار مئات المليارات في هذا المجال، إلا أن بعض التقارير تشير إلى أن هذا الزخم قد يبدأ في التباطؤ.
على سبيل المثال، ألغت “مايكروسوفت” بعض عقود تأجير مراكز البيانات في الولايات المتحدة، وفقاً لتقرير صادر عن شركة “تي دي كوين” (TD Cowen)، مما أثار مخاوف من أن الشركات قد تكون استثمرت أكثر مما تحتاج إليه.
كيف تحافظ إنفيديا على تفوقها؟
رغم هذه التحديات، لا تزال “إنفيديا” متقدمة بفضل استراتيجياتها المبتكرة، ومن أبرزها:
تحديث سريع للمنتجات: لا يوجد منافس آخر يستطيع مجاراة “إنفيديا” في سرعة تطوير الرقائق. فهي تطلق أجيالاً جديدة بمعدل أسرع من المتوقع، ما يجعل منتجاتها الأكثر تقدماً دائماً.
الاعتماد على البرمجيات: طورت “إنفيديا” منصة CUDA، وهي بيئة برمجية تجعل من الصعب على الشركات التحول إلى استخدام رقائق أخرى، مما يضمن لها الاحتفاظ بعملائها.
التوسع في الشراكات: عقدت الشركة شراكات مع أكبر شركات الحوسبة السحابية، مما يضمن استمرار الطلب على رقائقها.
المستقبل بين التفاؤل والحذر
رغم انخفاض أسهم “إنفيديا” مؤخراً، لا تزال الشركة في موقع قوي يسمح لها بالحفاظ على تفوقها. ومع ذلك، فإن المنافسة تزداد شراسة، سواء من الشركات الأميركية أو من اللاعبين الجدد في الصين.
السؤال الأهم الآن هو: هل تستطيع “إنفيديا” التكيف مع التغييرات السريعة في عالم الذكاء الاصطناعي، أم أن عصر هيمنتها المطلقة قد بدأ في التلاشي؟ الأيام القادمة ستحمل الإجابة.